شَخْصَنَة الفساد: كرة القدم نموذجا
حظي ملف كرة القدم باهتمام لم ينله أي ملف، ربما لأن الأمر يتعلق برياضة شعبية أو معشوقة الجماهير كما يصفها عشاقها؛ بل إن كرة القدم ظلت القضية الأولى شعبيا، أو هكذا أريد لها أن تكون حتى استحالت "أفيونا" يصرف عن أم القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فلو قارنا مثلا بين مستوى الاهتمام والتتبع اللذين حظيت بهما قضية كرة القدم خلال السنوات الثلاث الأخيرة وبين قضية قطاع حيوي كالتعليم لوقفنا على حجم الفرق الشاسع، علما أن التعليم بوابة التنمية والنماء.
اليوم، وصرفا لاهتمام الشعب عن فضيحة إفلاس تدبير شأن من الشؤون العامة وتسترا عمن عبثوا ليس بمشاعر الشعب وفئاته المولوعة بكرة القدم فقط، بل بذروا المال العام واستخفوا بذكاء المغاربة تم اختزال الأزمة في شخص مدرب أجنبي تقرر ـ بعد تماطل الجهات المعنية وتلكؤها ـ فسخ عقده مع الجهاز الوصي استباقا لتأكيد إقصاء المغرب من نهائيات كأسي إفريقيا والعالم القادمين، وإلا ستجد الجامعة المغربية لكرة القدم نفسها أمام خيار الاستقالة.
إن الشأن الرياضي عموما وكرة القدم ـ بالنظر إلى شعبيتها ـ خصوصا جزء من الشأن العام المجتمعي يتم تمويله من خلال المال العام الذي يجب أن تسهر على حمايته وحسن صرفه الحكومة أولا والبرلمان ثانيا والإعلام ونسيج المجتمع المدني ثالثا؛ والحال أن تدبير الشأن الكروي ظل يلفه الغموض وشح المعلومات: بنود العقد، راتب الناخب الوطني، الجهة المتحكمة في الملف، فتناسلت الروايات واختلطت الحقيقة بالخيال، وتحول الملف في النهاية إلى قضية من عيار "إيران ـ غات" تهدد الأمن القومي والاستقرار المجتمعي.
إن إفلاس التدبير الكروي يعيد طرح الأسئلة الكبرى التي تؤسس للإصلاح الشامل وترشيد تدبير شؤون العباد والبلاد تجاوزا للعقلية التحكمية الإقصائية وتثبيتا لآليات الحكامة الراشدة، من قبيل:
ـ إرساء ثقافة التعاقد تحديدا للأهداف والكلفة المالية والزمنية لأي شأن أو مشروع.
ـ ترسيخ ثقافة المحاسبة والمسؤولية.
ـ تفعيل شعار: الحق في الوصول إلى المعلومات والمعطيات.
ـ احترام التخصص والأهلية في المجال، فإسناد الأمور لغير أهلها مؤشر للخراب والإفلاس.
ـ ...
لذلك، يجب ألا نخفي غابة الفساد بشجيرة فسخ العقدة مع ناخب في النهاية لا يتحمل مسؤولية الإخفاقات كاملة. يجب أن نتجاوز مستوى الانفعال و"الببغائية" فنصفق لقرار تغيير ناخب أجنبي بإطار وطني وننسى ـ أو يُراد لنا أن ننسى ـ العوامل الحاسمة والمسؤولة عن النجاح أو الإخفاق في أي مجال والرياضة خاصة. إن المدرب ـ لا سيما الإطار الوطني ـ
لا يعدو أن يكون الحلقة الأضعف وعنصرا ضمن منظومة يهيمن عليها منطق التعليمات والتحكم عن بعد، ويتم إنزال المسؤولين بالمظلة وفرضهم على الهيئة ـ جامعة كرة القدم نموذجا ـ وتغيب الشفافية فتهدر الأحلام في تحقيق التنمية وتحسين مستوى الخدمات وتحقيق الكرامة والاعتزاز بالانتماء إلى الوطن قبل هدر المال العام والوقت، لأن جهات عليا تكفلت بتوفير الحماية والإفلات من المساءلة، فيترسخ الفساد ويتمأسس فلا الوزارة المنتدبة ولا الحكومة تقوى أن تتدخل ولو طلبا للاستيضاح، فبالأحرى اتخاذ قرارات الحسم.
إن المطلوب ـ اليوم ـ وانسجاما مع شعار محاربة الفساد فتح تحقيق في ملفات كبرى وصفقات مشبوهة سُوقت أوراشا استراتيجية ورهنت واقع البلد ومستقبله لمؤسسات دولية مالية أو جهات مانحة تحديدا للمسؤولية وتشخيصا لأسباب الإخفاق: استراتيجية الاشتغال، خلفية الاختيار، بيئة التنزيل، عقلية التسيير، أساليب التتبع والتقويم،... أما اختزال الفشل في أشخاص وتقديمهم قرابين لامتصاص غضب الشعب وتفادي اشتعال الشارع، فلا يعدو أن يكون إعادة لإنتاج الفشل.
الجرح أغور من إجراءات إسعافية، والأزمة أكبر من تغيير مسؤول بآخر، ما دامت البيئة العامة للاشتغال موبوءة تعبد طريق المناصب للانتهازيين ومن باعوا ضمائرهم وانخرطوا في "عصابة" المتآمرين على المصالح العليا للبلد مستفيدين من الامتيازات والريع الذي "يجود" به النظام على المتمسحين بالأعتاب المسبحين بحمد النظام ليل نهار.
الفساد تَغَوّلَ ـ من الغُول ـ في المجتمع وصارت له مؤسساته ومعاهده الاستراتيجية وعلماء ينافحون بالحجة والدليل تأكيدا لشرعيته ومفكرون وأقلام معلومة تزين الباطل وتشكك في نوايا الصادقين وتشغل الشعب بقضايا هامشية. الفساد بلغ أوج تطوره فتجاوز الواقع ليكتسب صفة ميتافيزيقية أسطورية فاستحال عفاريت وتماسيح لا قِبل بمواجهتها، فأضحى قضاء وقدرا يجب التسليم به وسؤال الله تعالى أن يلطف بنا أثناء تنزيله وأن يربط على قلوبنا حتى لا نفتن في ديننا وإيماننا.
القضية أيها السادة، ليست قضية استبدال مسؤول بغيره، بل قضية اجتثاث جرثومة الفساد وتخليص المجتمع من أورامه والقطع مع الفساد الأكبر الذي سرى في شرايين المجتمع فخرب الذمم ورسخ نهب المال العام سلوكا وثقافة.
القضية في النهاية: تكوين جبهة شعبية مناهضة لنزيف مقدرات البلد وفرص الإقلاع يقودها فضلاء الشعب ـ وما أكثرهم! ـ لمواجهة الفساد وفضح لوبياته لنكون، أو التعايش مع الفساد فيأتي على البقية الباقية من صلاح المجتمع فلا نكون. لا قدر الله.
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 63 autres membres